تطـ ـهير ما بعد البعث في سوريا – العدالة الانتقالية أم محفز للانقـ ـسام؟

منذ سقـ ـوط نظـ ـام الأسد في كانون الأول/ديسمبر 2024، شرعت السلـ ـطات السورية في تنـ ـفـ ـيذ عمـ ـلـ ـيات تطـ ـهـ ـير واسعة استهـ ـدفت موظفي القطاع العام، ضمن ما يُعرف بخطط إعادة الهيكلة الإدارية والاقتصادية. وتشير تقديرات الجهات الرسمية وغير الرسمية إلى احتـ ـمال إقـ ـالة أكثر من 300 ألف موظف من المؤسسات الحكومية، في بلد يعاني أصلاً من معدلات بطـ ـالة تتجاوز 60%، وفق بيانات محلية.

التطهير الجماعي وأثره الاجتماعي

وتركز عمليات الإقالة وفق تقرير لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، على موظفين مرتبطين سابقاً بحزب البعث، مع تأثير غير متناسب على فئات محددة، لا سيما الطائفة العلوية المرتبطة تاريخياً بالجهاز الأمني للنظام السابق. ويثير ذلك مخاوف واسعة من تحميل جماعات بأكملها مسؤولية أخطاء النظام السابق، ما قد يعمّق الانقسامات الطائفية ويزيد شعور الاستياء الاجتماعي.

إلى جانب البعد السياسي، تسببت الإقالات في فقدان آلاف المواطنين الحماية الاجتماعية والرواتب المرتبطة بالوظائف الحكومية، ما أدى إلى احتجاجات في المدن الكبرى مثل دمشق، حلب، اللاذقية، وطرطوس، حيث طالب المفصولون بإعادة تعيينهم أو تقديم تفسير رسمي لفصلهم. ولم تتضح حتى الآن إجراءات مراجعة هذه الإقالات بشكل شفاف، مع استمرار القلق من أن يكون الفصل الجماعي أداة للإقصاء السياسي بدل تحقيق العدالة.

الدروس المستفادة من تجربة العراق

ويشير تقرير معهد واشنطن، إلى تجربة العراق بعد سقوط صدام حسين في 2003، حيث أدت سياسات الإقصاء الجماعي (اجتثاث البعثيين) إلى تفكك مؤسسات الدولة، وارتفاع التوترات الطائفية، وزيادة معدلات البطالة والفقر، وتفاقم النزاعات المسلحة على مدى سنوات.

وفي العراق، شمل التطهير الجماعي المعلمين، الأساتذة، العاملين في القطاع الصحي، والموظفين الحكوميين في المستويات الدنيا، فضلاً عن حل الجيش وقوات الأمن بالكامل. ومع إقصاء فئات واسعة من المجتمع عن العمل والدخل، ظهرت موجات استياء دفعت إلى انخراط بعض المجموعات في أعمال عنف مسلح، مما أسفر لاحقاً عن صراعات طائفية مسلحة معقدة استمرت لأعوام.

التجربة العراقية تحذر سوريا من مخاطر تبني سياسات إقصائية مماثلة، خصوصاً في ظل مجتمع أكثر هشاشة وأضرار اقتصادية أوسع بعد عشر سنوات من الحرب والنزوح، مع هياكل سلطة محلية متنافسة.

العدالة الانتقالية مقابل الانقسامات

ويؤكد الخبراء أن العدالة الانتقالية في سوريا تتطلب نهجاً متوازناً يميز بين المسؤولين المباشرين عن الانتهاكات، وبين الموظفين العاديين الذين لم يشاركوا في القمع أو الفساد.

ويشير التقرير إلى أن أي فصل جماعي يفتقد للشفافية أو ضمانات حقوقية قد يحول جهود المساءلة إلى أدوات للعقاب الجماعي، ويعزز مناخ الثأر والاضطرابات.

ويضيف التقرير أن السياسات الانتقالية يجب أن تراعي أولويات الضحايا، وتدمج برامج حماية اجتماعية للموظفين المفصولين، كما يجب إشراك المجتمع المدني والهياكل الدولية لضمان الشفافية وعدم توظيف العمليات الانتقالية لتعزيز هيمنة سياسية أو طائفية على حساب الاستقرار الوطني.

الإصلاح الإداري والفرص الاقتصادية

أحد التحديات الرئيسية أمام السلطات الجديدة هو الحفاظ على أداء المؤسسات الحيوية مثل التعليم والصحة والخدمات العامة، في ظل نقص الموظفين بسبب الإقالات الجماعية. فقد أدى الفصل الجماعي إلى تفاقم النقص في أعداد المعلمين والأطباء والمهندسين، مع تباطؤ في تعويض المهارات الضرورية لإدارة الدولة.

ويرى التقرير أن تطبيق آليات فرز انتقائية، تحدد المسؤولين مباشرة عن الانتهاكات، مع توفير فرص إعادة تأهيل أو دمج الموظفين الأقل تورطاً، يمكن أن يقلل من أضرار الفراغ الإداري ويعزز الثقة بالمؤسسات.

المشاركة المدنية والإشراف الدولي

ويوصي معهد واشنطن بضرورة إشراك المجتمع المدني في عمليات الفرز والمحاسبة، بالإضافة إلى الهيئات الدولية مثل الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان، لتوفير ضمانات مراقبة مستقلة، ومنع استغلال السلطات الجديدة للعملية الانتقالية في خدمة مصالح سياسية ضيقة.

كما يشدد التقرير على أهمية الحوار الوطني الشامل، الذي يشمل كافة الفئات والطوائف، لضمان قبول واسع للمرحلة الانتقالية، ولتقليل مخاطر الانقسامات الطائفية والسياسية التي يمكن أن تؤدي إلى عنف واسع النطاق.

ويشير التقرير إلى أن السياسات الانتقالية القائمة على الإقصاء الجماعي قد تكون مغرية لتحقيق العدالة، لكنها محفوفة بالمخاطر في مجتمع هش بالفعل. ويؤكد التقرير، أن النجاح في الانتقال السياسي يتطلب مزيجاً من العدالة الانتخابية، والفرز الانتقائي، وحماية حقوق الضحايا، وبناء مؤسسات موثوقة، مع إشراك المجتمع المدني والهيئات الدولية.

السؤال الأساسي يبقى: هل ستسهم السياسات الحالية في بناء مصالحة وطنية ومستقرة، أم ستؤدي إلى دورة جديدة من الانقسامات الاجتماعية والطائفية؟

مشاركة المقال عبر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى