إن صـ ـمت روسيا حيال الهجـ ـمـ ـات التركية على شمال وشرق سوريا رغم أنها دولة ضـ ـامنة لوقـ ـف إطـ ـلاق النـ ـار، وكذلك استـ ـهتـ ـار الحكومة السورية وعـ ـدم سعيها لحل الأزمـ ـة في سوريا والجلوس إلى طاولة الحوار مع الإدارة الذاتية، يفتح الطريق أمام تركيا لشـ ـن المزيد من الهـ ـجمـ ـات داخل الأراضي السورية للوصول إلى حدود ما تسميه الميثاق الملّي.
منذ أن بدأت الثورة في سوريا، تدخلت تركيا من أجل تحقيق أجنداتها في هذا البلد، مستخدمة الإخوان المسلمين مطية لتحقيق غاياتها، فدعمت بالأموال القطرية مجموعات الإخوان التي تغلغلت في صفوف الجيش السوري الحر والذي كان عبارة عن ضباط وعناصر انشقوا عن قوات الحكومة السورية، كما فتحت في ذات الوقت أبوابها أمام فصائل الجيش الحر وأقامت معسكرات لهم على أراضيها، كما فتحت أبوابها أمام السوريين وأنشأت لهم المخيمات، والكل على دراية بغرفة الموم التي كانت تركيا مقرها للتدخل في شأن الشمال السوري وكذلك الموك التي كانت تتخذ من الأردن مقراً لها للتدخل في الجنوب السوري.
ومع فشل مخطط تركيا بإسقاط الحكومة السورية، وفشل المجموعات التي قدمت الدعم لها من تنظيم الدولة الإسلامية وحركة أحرار الشام وجبهة النصرة من السيطرة على المناطق الكوردية، دخلت هي بنفسها وبجيشها على الخط اعتبارا ًمن عام 2016، وسيطرت على جرابلس والباب وإعزاز في البداية ومن ثم عفرين عام 2018 وأخيراً رأس العين وتل أبيض عام 2019.
وفي هجومها الأخير على رأس العين وتل أبيض، حينها وقع الرئيس الروسي اتفاقية مع الرئيس التركي رجب أردوغان في موسكو، اطلق عليه اسم اتفاق وقف إطلاق النار، والذي بموجبه أصبحت روسيا دولة ضامنة في مناطق شمال وشرق سوريا المحاذية لتركيا، كما انتشر بموجبه حرس الحدود السوري التابع للحكومة السورية على طول الشريط الحدودي ومناطق التماس من منبج ووصولاً إلى أقصى شرق سوريا في المالكية، وتنتشر عشرات نقاط القوات الحكومة السورية على طول الحدود كما تنتشر مثلها العشرات من نقاط المراقبة الروسية.
ومع استمرار تهديدات تركيا لمناطق شمال وشرق سوريا لتنفيذ مخططاتها ورفض القوى العظمى منحها الضوء الأخضر للسيطرة على أراضي جديدة، بدأت تركيا خصوصاً بعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي جرت في أيار العام الفائت، بتهديد شمال وشرق سوريا علناً باستهداف البنى التحتية، وهذا ما حصل بالفعل في شهري تشرين الأول وكانون الأول عام 2023 عندما هاجمت تركيا عشرات البنى التحتية من محطات وآبار نفط وشركات كهرباء ومؤسسات مياه ومدارس ومشافي ومطاحن ومعامل ومنشآت متنوعة توفر الخدمات الأساسية للحياة في المنطقة.
ورغم أن روسيا هي دولة ضامنة إلا أنها لم توقف الهجمات التركية، ولم تصدر أي بيان حول الهجمات ولم تدعو أبداً إلى إيقافها، بل اكتفت بنقل الأخبار عن الأماكن التي تعرضت للتدمير عبر إعلامها، وكأنها ليست جزءاً من ما يجري، فروسيا دولة ضامنة، وبما أن تركيا لم تتعرض لأي إطلاق نار من الجانب السوري، كان على روسيا تذكير الجانب التركي بأن هجماتها يجب أن تتوقف خصوصاً أنها تنتهك القانون الدولي وتعتبر وفقه جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية لأن سعت لحرمان المدنيين من مقومات العيش.
إن روسيا فضلت عدم التدخل حرصاً على مصالحها مع تركيا، إذ أن الأخيرة تساعدها في الالتفاف على العقوبات التي فرضها حلف الناتو عليها بعد أن أطلقت عملية عسكرية خاصة في أوكرانيا، وفي ذات الوقت تدعم تركيا أوكرانيا عبر طائرات بيرقدار المسيرة والتي تقتل يومياً العشرات من الجنود الروس.
الصمت المطبق لم يكن موقف روسيا لوحدها، بل حتى أن الحكومة السورية أيضاً التزمت الصمت حيال الهجمات التركية ولم تقدم اعتراضاً في مجلس الأمن والأمم المتحدة على الهجمات التركية التي استهدفت منشآت وطنية منها آبار ومحطات النفط وشركات الكهرباء والصوامع ومؤسسات المياه والمشافي، وكأن الأمر لا يعنيها أبداً.
إن ما يفتح الطريق أمام الهجمات التركية على الأراضي السورية بعد أن سيطرت على نحو 10 بالمئة تراها جزءاً من حدود ما تسميه الميثاق الملّي، هو عدم اهتمام الحكومة السورية بإيجاد حل سياسي للأزمة، فعلى مر السنوات السابقة دعت الإدارة الذاتية الحكومة السورية للجلوس إلى طاولة الحوار من أجل إيجاد حل للأزمة، في نيسان العام الفائت طرحت مبادرة لحل الأزمة، حيث ركزت المبادرة على أن سوريا هي واحدة أرضا ًوشعباً وأن شمال وشرق سوريا جزء لا يتجزأ من الأراضي السورية، وأن الخيرات الموجودة في شمال وشرق سوريا هي ملك لكل السوريين ويجب التوصل لاتفاق حول إدارتها والاستفادة منها وتوزيعها توزيعاً عادلاً بين جميع المناطق السورية.
ولكن رغم ذلك، ترفض الحكومة السورية الجلوس إلى طاولة الحوار مع الإدارة الذاتية للوصول إلى حل يرضي جميع السوريين، ويعود السبب في ذلك إلى أمراء الحرب من ضباط ومسؤولي الحكومة السورية الذين يستفيدون من حالة الفلتان الأمني وعدم الاستقرار من أجل زيادة رؤوس أموالهم التي باتت تبلغ ملايين الدولارات في وقت لا يجد فيه السوريون ما يسدون به رمق العيش.
تجار الحرب والأزمة هؤلاء من ضباط ومسؤولين حولوا الأراضي السورية إلى مصانع لصنع الكبتاغون ومزارع لزراعة المخدرات ونشرها ليس فقط في دول الشرق الأوسط بل تصديرها إلى مختلف أنحاء العالم.
وخلال الأيام الأخيرة اندلعت العديد من الاشتباكات بين الجيش الأردني ومجموعات تقدر بالعشرات الذين يهربون المخدرات ويستخدمون القوة المسلحة لاجتياز الحدود الأردنية من أجل إيصال تلك المخدرات إلى دول الخليج من أجل جني ملايين الدولارات من وراءها.
وعوضاً أن تسعى الحكومة السورية إلى إيجاد حل للأزمة السورية، فأن تزيد من معاناة السوريين عبر قرارات غير مدروسة تصدرها والتي يتم فيها رفع أسعار المحروقات والمواد والسلع الأساسية في وقت تنعدم فيه الخدمات بشكل شبه كلي في عموم المناطق السورية وترتفع فيه معدلات الفقر والعوز إلى نسب غير مسبوقة.
وهذا الفقر يدفع من تبقى من السوريين للعمل في مجال صناعة وتجارة الكبتاغون والمخدرات التي يتم إنتاجها في مصانع المسؤولين والضباط وتجار الأزمة، فكلما زاد الفقر زادت فرصة تحول السوريين إلى مهربين للمواد المخدرة، وكلما زاد تهريب المخدرات زادت الأموال التي يحصل عليها المسؤولون والضباط وتجار الأزمة، ولذلك ليس من مصلحة هؤلاء إيجاد حل للأزمة حتى وإن كان الثمن خسارة سوريا بكل ما فيها وليس أجزاء من أرضها.
إن سوريا اليوم هي دولة فاقدة للسيادة مع كثرة جيوش الدول الموجودة على أراضيها والتي تتصرف بها وكأنها جزء من أراضيها وتعين فيها الولاة والضباط وتديرها بشكل مباشر وتنشر فيها لغتها وثقافتها وتقضي على كل شيء مرتبط بسوريا، وهذا يشكل خطراً على مستقبل سوريا وسيجعلها دولة مقسمة إلى شعب متعدد الولاءات واللغات ويعمل كل طرف على خدمة أجندات داعميه وهذا يفتح الباب أمام مشاكل كثيرة مستقبلاً.