شمال وشرق سوريا

جاندا وإيناس… ضحايا جدد على طريق الهجرة إلى أوروبا

منذ سنوات لم يتوقف السوريون عن مغامرة الهجرة برا أو بحرا رغم المآسي وحوادث الموت والضياع المتكررة يوميا. والمغامرة لا تقتصر على الشباب بل تشمل النساء والعائلات التي لديها أطفال، وآخر الفجائع رحلة لعروستين متجهتين إلى ألمانيا للقاء شريكي العمر تنتهي غرقاً في البحر ولم تظهر جثة أيّ منهما مما زاد في لوعة عائلتيهما وحيرتهما.
ففي قرية نائية في شمال وشرق سوريا، ترفض شوافة خضر بينما تجهش بالبكاء أن تصدّق أن البحر ابتلع ابنتها جاندا، التي كانت في عداد العشرات الذين اختاروا بلوغ أوروبا عبر زورق أبحروا به من شمال لبنان.
ومنذ سنة 2011 صار لكل عائلة سورية حكاية مع اللجوء والهجرة غير الشرعية، فإن نجح البعض في إيجاد حياة جديدة له بعيدا عن الوطن الذي تمزقه الحرب والفوضى، خسر آخرون حياتهم وبقيت عائلاتهم تعيش اللوعة، بحسب صحيفة العرب.
وتقول السيدة بينما تجلس في منزلها في قرية باترزان باللغة الكوردية لوكالة فرانس برس “ستبقى طفلتي، ابنتي المدللة، وسأنتظرها في كل ليلة وأدعو رب العالمين أن تكون بسلام وفي مكان آمن”.
ورغم أن ابنتها في عداد المفقودين، ترفض شوافة (60 عاما) إقامة مجلس عزاء، حتى أنها قامت بطرد ابنها من المنزل حين اقترح الاستسلام للأمر الواقع والقبول بوفاة شقيقته غرقاً. وتضيف السيدة التي غزت التجاعيد وجهها الحزين “ربما تكون ضائعة على أحد الشواطئ”.
قبل أسابيع عدة، غادرت جاندا سعيد (27 عاما) وإيناس عبدالسلام (23 عاما) سوريا إلى لبنان، حيث صعدتا على متن قارب كانتا تأملان أن يصل بهما إلى أوروبا، للقاء خطيبيهما في ألمانيا وإتمام معاملات زواجهما من الشقيقين.
لكن الرحلة التي انطلقت ليل الثالث والعشرين من أبريل، سرعان ما انتهت بغرق القارب أثناء محاولة توقيفه من الجيش اللبناني قبالة سواحل مدينة طرابلس شمالا.
وفي حين يتهم ناجون القوات البحرية اللبنانية بإغراق القارب أثناء محاولة توقيفه، قال الجيش إن قائد المركب نفذ “مناورات للهروب (…) بشكل أدى إلى ارتطامه”.
وكان على متن القارب، وفق الأمم المتحدة، 84 شخصا، تمّ إنقاذ 45 منهم، 11 منهم سوريون، بينما تمّ العثور على ثماني جثث فقط. ولا يزال نحو أربعين شخصا في عداد المفقودين، ثمانية منهم سوريون بينهم جاندا وإيناس.
ومنذ العام 2020، وفق الأمم المتحدة، حاولت 38 قاربا على متنها أكثر من 1500 الفرار عبر البحر، وقد “تم اعتراض أو إعادة أكثر من 75 في المئة” منها.
في كل مرة تنظر إلى صورة تظهر فيها ابنتها وقد أرخت ظفيرتها مرتدية كنزة بيضاء وحمراء اللون، تجهش شوافة بالبكاء. تتذكر الأم المفجوعة الساعات الأخيرة مع جاندا مردّدة “آه يا أمي، آه يا أمي”. وتقول إن ابنتها “حملت في حقيبتها وشاحي لكي ترافقها رائحتي وحمايتي”.
وكانت شوافة ودّعت ابنتها عشية سفرها بإقامة حفلة حناء لها، وهو تقليد متوارث يُنظم للعروس التي ترتدي فستانا أحمر اللون، بحضور صديقاتها ويتم خلاله تخضيب يديها بالحناء.
من غرفة الجلوس في منزلها، تمسح دموعها بحجابها الأزرق. تأخذ نفسا عميقا، وتفتح مقطع فيديو على هاتفها الجوال تظهر فيه ابنتها وهي ترقص مع صديقاتها خلال حفلة الحناء.
وتقول “وضعت الحناء على يديها وليرة ذهبية في كفها وألبستها خاتما في إصبعها (..) كنت أشعر بالسعادة.. أما اليوم فلا يمر يوم من دون أن أبكي عليها”.
لم تكن شوافة على دراية بالطريقة التي ستسافر بها جاندا إلى خطيبها في ألمانيا. وتوضح “لو كنت أعلم أنها ستسافر بهذه الطريقة لكنت منعتها”، مضيفة “حتى لو أعطوني وزنها ذهبا لما كنت غامرت بها”.
بعكس شوافة، رضيت هيام سعدون (42 عاما) بالقدر ووافقت بعد طول انتظار على إقامة مجلس عزاء لابنتها إيناس، وكل أملها اليوم هو العثور على جثتها.
وداخل خيمة العزاء في مدينة القامشلي (شمال شرق)، تحمل هيام صورة ابنتها العروس وتقول لفرانس برس “كانت ابنتي سعيدة بخطبتها (…) كنت أتمنى رؤيتها مرتدية فستان عرسها”. وتضيف “كنت أتخيّلها في منزلها مع أطفالها وعائلتها.. لكنني اليوم أتمنى أن يكون عرسها في الجنة”.
ويعصر الشوق قلب هيام خصوصا أنّ ابنتها كانت دائما تردد أمامها أنها لن تعود إلى سوريا، الغارقة في نزاع دام أثقل حياة أهلها منذ العام 2011. لكنّ الوالدة الثكلى لم تتوقع أبدا أن تلقى ابنتها هذا المصير.
وتمسح هيام بيديها صورة ابنتها. وتقول “كانت تبحث عن حياة أفضل في أوروبا على غرار كثر سافروا قبلها”. وتضيف “كانت تقول لي أحيانا ‘أشعر أنني إذا ذهبت، فلن أعود أبدا’”.
ولقي المئات من السوريين مصرعهم غرقا في مياه البحر على متن قوارب متهالكة تفتقد لأبسط معايير السلامة، خلال السنوات الأخيرة، في طريق العبور إلى القارة الأوروبية، أملا في مستقبل أفضل وحياة أكثر أمانا. من سلكوا الطرق البرية عانوا أشكالا من المعاناة تتنوع بين الجوع والعطش والابتزاز والتعذيب بل منهم من مات متجمدا أو تائها في الغابات الأوروبية، ويقول أغلبهم “أينما تحركنا فإن الموت يلاحقنا”.
وحتى الذين وصلوا إلى أوروبا أو دول عربية فلم يحالف الحظ الجميع، فبعضهم ما زالوا يعانون من إجراءات الإدماج البطيئة في ظروف نفسية عنوانها الإحباط.

مشاركة المقال عبر