سوريا

على خلفية التقارب المحتمل بين دمشق وأنقرة رسائل تصعيدية متبادلة تركية وروسية وأميركية

كان مجرد توافق دمشق وأنقرة على تدشين مسار التقرب بدفع روسي وإيرانيّ، كافياً على ما يبدو لتحريك المياه الراكدة ودفع بعض الدول والجهات إلى التوجّس مما يمكن أن يترتب عليه من آثار وتداعيات كبيرة على مجمل الملف السوريّ من جهة، وعلى موقع هذا الملف ضمن الكباش الدوليّ الحاصل على هامش الحرب الروسية – الأوكرانية، من جهة ثانية. وقد انعكس ذلك على الساحة السورية التي شهدت في اليومين الماضيين مؤشرات الى التصعيد بين واشنطن وموسكو وبين موسكو وأنقرة.

كيان سياسي جديد

نفّذت المقاتلات الجوية الروسية يوم الثلاثاء، أربع غارات على موقع لفصيل موالٍ لتركيا، لا يبعد من الحدود التركية سوى 1 كيلومتر، وذلك في خطوة نادرة الحدوث، لا سيما في ظل تفاهم سابق بين تركيا وروسيا يحظر القصف على الشريط الحدودي ضمن عمق يصل إلى 5 كيلومترات.

وذكرت مصادر ميدانية أن 4 غارات جوية استهدفت موقعاً لـ “جيش العزة” الموالي لتركيا، شمال إدلب، مشيرةً إلى أن القصف الجوي الروسي تم بصواريخ دقيقة وشديدة الانفجار استهدفت معسكر “جيش العزة” الذي يقع على بعد 1 كلم من معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا، ويضم أكثر من 300 مقاتل من قادة وعناصر وإداريين.

وقال المصدر العسكري، إن قائد “جيش العزة” وقادة من الصف الأول نجوا من الاغتيال بالقصف الجوي وأن أولى الغارات الجوية كانت على بعد أمتار قليلة من مكان تواجدهم داخل المعسكر التدريبي، حيث تم إجلاء كل العناصر والقادة من المعسكر وعلى رأسهم قائد “جيش العزة” الرائد جميل الصالح بعد أول غارة جوية، وبعد وصول معلومات كانت متأخرة نوعاً ما عن وجود إحداثيات بالقصف الجوي الروسي على المنطقة.

وأكدت المصادر أن الغارات الثلاث أصابت بشكل مباشر المعسكر التدريبي في المنطقة وأن دماراً كبيراً حصل في المنطقة المستهدفة، حيث سقطت الصواريخ على ساحة المعسكر ومحيطه وتسببت بهدم عدد من الغرف الإسمنتية داخله، مع تدمير المدخل الرئيسي للمعسكر من الجهة الجنوبية.

ورأى مراقبون للمشهد السوري أن القصف الروسي لموقع ملاصق تقريباً للحدود التركية مع سوريا، جاء بعد تصريحات المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم كالين، التي أكد فيها “عدم وجود أي خطط للاتصال السياسي مع دمشق حالياً”، وأشار المراقبون إلى أن التصريح التركي ربما يكون استفزّ الدبلوماسية الروسية التي كانت تراهن على أن الظروف الحالية والتفاهمات مع أنقرة أصبحت تسمح بفتح قناة اتصال سياسية بين تركيا وسوريا، غير أن تصريح كالين جاء ليبعثر الآمال الروسية، وهو ما استدعى أن تقوم موسكو بغارة قريبة من الحدود التركية كرسالة ضغط على أنقرة للمضيّ قدماً في مسار التقارب.

وإلى جانب ذلك، تبذل موسكو جهوداً سياسية بهدف العمل على إيجاد كيان سياسي معارض لا تكون لديه اعتراضات على الانخراط في سياسة المصالحة بين الفرقاء السوريين المتخاصمين، والتي أعلنتها أنقرة بلسان وزير خارجيتها جاويش أوغلو وأدت في حينه إلى وقوع احتجاجات شديدة ضدها.

وشهدت مكاتب وزارة الخارجية الروسية في 14 أيلول (سبتمبر) الجاري اجتماعاً لقيادات من مختلف منصات المعارضة السورية. وحضر الاجتماع كل من رئيس منصة موسكو قدري جميل، والنائب السابق لرئيس هيئة التفاوض خالد المحاميد، وممثل هيئة التنسيق في موسكو عادل إسماعيل، وعضو مجلس سوريا الديموقراطية “مسد” سيهانوك ديبو، وعضو المبادرة الوطنية في جبل العرب حسن الأطرش، بالإضافة إلى عبيدة النحاس من حركة التجديد الوطني، وعضو حزب الإرادة الشعبية علاء عرفات، والممثل عن حزب سوريا المستقبل علي العاصي.

وذكرت تقارير إعلامية أن الهدف من ترتيب هذا الاجتماع الذي جاء بطلب مباشر من قدري جميل المقرب من موسكو، هو إطلاق محاولة أكثر تماسكاً تصل إلى إنتاج جسم سياسي معارض جديد يكون بديلاً من هيئة التفاوض.

واشنطن: إمدادات جوية … وترتيبات سياسية

من جهة أخرى، وجهت واشنطن ما يمكن وصفه برسالة تصعيد كامنة، من خلال تخليها من طريق الإمداد البرّي الوحيد الذي كانت تستخدمه لتعزيز قواتها في سوريا، ولجوئها عوضاً عن ذلك إلى افتتاح مسار للإمداد الجوي. وبحسب الموقع الرسمي لـ”غرفة عمليات العزم الصلب”، فإن “طائرة تابعة للقوات الجوّية الأميركية، من طراز C-17، أحضرت إمدادات حيوية إلى سوريا”. وأضاف قائد الغرفة أنه “للمرة الأولى يمكن لقوات التحالف أن تنتشر في أيّ مكان، وفي أيّ وقت، لتمكين شركائنا الذين يحافظون على ضمان أمن المنطقة”، في إشارة إلى “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد).

وإلى جانب إنشائها قاعدة جديدة بالقرب من مطار القامشلي حيث تتواجد القوات الروسية، يمكن اعتبار خطوة الإمداد الجوي إشارة واضحة إلى نيّة الولايات المتحدة توسيع حضورها العسكري في سوريا لتحقيق أهداف مختلفة. ويبرز من بين هذه الأهداف: توجيه رسالة مفادها أنها لن ترضخ للضغوط، بل ستواصل تحشيد قواتها في المنطقة، ذلك أن أميركا تخشى الضغط الذي تواجهه قواتها على الأرض من القوات السورية والروسية والإيرانية، سواء في ما يتعلق بالقصف المتكرر على قواعدها العسكرية في التنف وحقل العمر، أم في عرقلة الدوريات التي تقوم بها قواتها في بعض المناطق في شرق سوريا. ويتمثل الهدف الثاني في رغبة الولايات المتحدة في تكريس حدود معينة لمناطق النفوذ التي تتقاسمها مع كل من روسيا وإيران وسوريا في الشرق السوري، بحيث تضمن ألا تؤدي أي تغييرات سياسية محتملة الحدوث إلى التلاعب بهذه الحدود، وتشمل هذه التغييرات مساعي التقارب بين دمشق وأنقرة.

وكانت واشنطن عزلت قبل أيام قائد جيش “مغاوير الثورة” مهند الطلاع وعينت بدلاً منه النقيب فريد القاسم في خطوة تهدف الى الضغط على تركيا، لأن الطلاع كان معروفاً بقربه من الاستخبارات التركية، وكان يرفض إجراء أي تقارب أو القيام بأي عمل عسكري بالتحالف مع “قوات سوريا الديموقراطية”، ولعل واشنطن وجدت أن الوقت قد حان من أجل تصفية الخلافات بين حلفائها على الأرض.

وهكذا يبدو المشهد السوري يضجّ بتغييرات ورسائل متبادلة قد تكون جاءت نتيجة تأثيرات خارجية على رأسها الحرب الأوكرانية، ولكن من المتوقع أن تتخذ هذه التغييرات منحى تصاعدياً أكثر على وقع التقدم الذي يمكن أن تشهده مسارات الحوار المختلفة، ومن غير المستبعد أيضاً أن تتحول رسائل التصعيد الكامنة إلى رسائل مباشرة وأكثر حدة من الطرف الذي يرى أن التطورات لا تخدم مصالحه.

مشاركة المقال عبر