هل تنقلب الطاولة؟ إدلب على حـ ـافة حـ ـرب داخلية بين “الجـ ـولاني الجديد” والمهـ ـاجرين

يشهد شمال غرب سوريا، ضمن مناطق “سلـ ـطة دمشق الجديدة” تحت قيادة أحمـ ـد الشـ ـرع (أبـ ـو محـ ـمد الجـ ـولاني)، مرحلة مفصلية تتسم بتصـ ـعيد شبه يومي في المواجـ ـهة مع الجمـ ـاعات الأجـ ـنـ ـبية والراديـ ـكـ ـالية التي ترفـ ـض مشروع “التمدن” و”الشـ ـرعنة” الذي تتـ ـبناه هيـ ـئة تحـ ـرير الشـ ـام. هذا التصـ ـعيد ليس مجرد احتـ ـكاكات أمـ ـنـ ـية عابرة، بل يمثل استراتيجية ممنهجة من قبل الشـ ـرع لإعادة تشكيل البيئة الأيـ ـديـ ـولوجية والسياسية في منطقة نفـ ـوذه، والتخـ ـلص من أي جسم إسـ ـلامي متشـ ـدد يعيق مساعيه للقبول الإقليمي والدولي. إن ديناميكية هذا الصراع، التي تتأرجح بين القمـ ـع الفكري والمواجـ ـهات المسلحة، ترفـ ـع بشدة احتـ ـمالية الانـ ـزلاق نحو صـ ـراع مسـ ـلح أوسع.
استهداف الخلافة الفكرية: حملة الاعتقالات ضد حزب التحرير
في تجسيد واضح لسياسة “تكميم الأفواه الأيديولوجية”، شهد شهر تشرين الأول الجاري حملة أمنية واسعة النطاق شنتها دوريات الأمن العام التابعة لسلطة دمشق المؤقتة ضد حزب التحرير الإسلامي. وقد جاء هذا الرد الحاسم بعد قيام الحزب بتوزيع منشورات في مدينة سرمدا بإدلب وصفت فيها الانتخابات البرلمانية التي أجرتها السلطة بأنها “انتخابات الكفر”، منتقدةً السلطة التي يقودها الشرع بأنها “ليبرالية ولكن بزي إسلامي”، وطالبت الشعب بالوقوف ضدها لمخالفتها “شريعة الله”.
ولم يقتصر الأمر على إزالة المنشورات، بل امتد إلى اعتقال قادة وأعضاء بارزين في حزب التحرير الإسلامي، من بينهم أبو أنس الإدلبي. هذا التحرك الأمني السريع يؤكد أن الشرع لم يعد يقبل حتى بالمعارضة الفكرية السلمية التي تتبنى مشروع الخلافة العالمي وتعارض مشروعه.
وقد أثارت هذه الاعتقالات ردود فعل غاضبة من حزب التحرير الذي استنكر سياسة السلطة المؤقتة التي “تعتقل من يدعون إلى الإسلام والجهاد ومن ينشرون فكرة الخلافة الإسلامية في الشام”، مما يكشف عن الهوة الأيديولوجية المتزايدة بين الطرفين.
توحيد الجبهات المضادة: رد فعل الجماعات الراديكالية الأجنبية
ولم تمر حملات الاعتقال دون تداعيات فورية على المشهد الراديكالي في إدلب. ففي سياق رد الفعل على قمع السلطة، عُقدت العديد من الاجتماعات بين قادة حزب التحرير وقادة المجموعات الأجنبية الجهادية الأكثر تشدداً، مثل مقاتلي الإيغور والشيشان. وكان الهدف المعلن من هذه الاجتماعات هو “إقامة وحدة بينهم والقيام بأنشطة إسلامية”، تزامناً مع عقد ندوات لتعزيز فكرة الخلافة.
هذا التقارب يدل على نشأة جبهة غير رسمية موحدة أيديولوجياً، تجمع بين الراديكاليين المحليين (حزب التحرير) والمهاجرين الأجانب، جميعهم يرفضون مسار هيئة تحرير الشام نحو التخفف من الأيديولوجية المتشددة مقابل الشرعية الإقليمية.
إن هذه الوحدة المرتكزة على مبدأ “الخلافة” تشكل تحدياً وجودياً لسلطة الشرع، وتؤكد أن الصراع يتحول من صراع سلطة إلى صراع عقائدي.
السوابق الخطيرة: نموذج المواجهة مع “فرقة الغرباء” الفرنسية (عمر أومسين)
ولم تكن المواجهة مع حزب التحرير هي الأولى من نوعها في سياق “تطهير” الساحة من الجهاديين المتمردين على سلطة الشرع. وتُعد الخلافات والمواجهات مع مجموعة “فرقة الغرباء” الفرنسية بقيادة عمر أومسين (عمر ديابي) مثالاً نموذجياً لاستراتيجية الشرع في استئصال التمرد الأجنبي.
هذه المجموعة، التي تتكون غالباً من مقاتلين فرنسيين، قامت بتأسيس كيان شبه مستقل في مخيمها بمنطقة حارم، متضمنةً “محكمة شرعية” خاصة بها، مما شكل تحدياً مباشراً لسيادة سلطة دمشق.
الخلافات بين أومسين والشرع قديمة، وقد اعتقلت هيئة تحرير الشام أومسين سابقاً في عام 2020 بتهمة “تنظيم محاكمات وإجراءات جنائية” موازية للسلطة القضائية القائمة.
وفي الآونة الأخيرة، شهد مخيم الفرنسيين اشتباكات أمنية عنيفة ضمن حملة تستهدف تفكيك المجموعة واعتقال أومسين. هذا الاستهداف المباشر للجماعات المصنفة دولياً كإرهابية، مثل “فرقة الغرباء”، يُنظر إليه على أنه جزء من جهود الشرع لتعزيز علاقاته الأمنية مع الغرب (تحديداً فرنسا والولايات المتحدة)، مما دفع “فرقة الغرباء” لاتهام سلطة دمشق بـ “خيانة الشعب السوري والمجاهدين”.
إن تكرار هذه المواجهات يؤكد أن الشرع عازم على دمج جميع الفصائل تحت مظلة سلطته أو تصفيتها، بغض النظر عن الثمن.
تحليل التداعيات والفرصة الاستراتيجية
إن استمرار هذا المسار من القمع الممنهج والتضييق على الجهاديين الرافضين لمشروع الشرع يرفع من احتمالية الانزلاق إلى حرب مسلحة مفتوحة. هذه الجماعات، التي ترى في الشرع “خائناً” ومتخلياً عن مبادئ الجهاد والخلافة، قد تجد نفسها مضطرة للتحرك العسكري للدفاع عن وجودها وعقيدتها، خاصة مع توحدها الأخير مع حزب التحرير.
هذه التناقضات الأيديولوجية والتناحر الداخلي بين سلطة الشرع والجماعات الراديكالية، تزيد من التصدع والتوتر بين هذه الأطراف، مما يدفعهم نحو مزيد من الاشتباك الداخلي والتفكك.
ويؤكد المتابعون أن الشرع يتخلى عن “مشروع الجهاد والخلافة” مقابل مكاسب سلطوية، وهو ما يدفع عناصر الجماعات الأجنبية التي ساعدته في الوصول إلى السلطة، إلى مزيد من التمرد والانقسام، ويفتح الباب أمام صراعات دموية قد تشهدها شمال غرب سوريا وتحديداً إدلب معقل تلك الجماعات.



