“شام كاش”.. تطـ ـبيق الرواتب الذي يثـ ـير جـ ـدلاً واسعاً ومخـ ـاوف أمـ ـنـ ـية
من أداة تسهيلية إلى مصدر خطر جدي على الأمن الرقمي والاقتصادي والاجتماعي

في خطوة وُصفت بأنها “رقمنة للرواتب”، فـ ـرضـ ـت “الحكومة المؤقتة” على موظفي القطاع العام في سوريا استلام أجورهم الشهرية عبر تطبيق “شام كاش”، وهو منـ ـصة مـ ـالية إلكترونية تقول سلـ ـطات دمشق إنها تهدف إلى تسهيل المعاملات وتخفيف معـ ـاناة الموظفين أمام المصارف المزدحمة. لكن هذه الخطوة لم تمر مرور الكرام؛ إذ فجّـ ـرت مـ ـوجة واسعة من الانتقـ ـادات والتحـ ـذيرات، ليس فقط لقـ ـصور التطبيق من الناحية التقنية والاقتصادية، بل أيضاً لما يحمله من أبعاد أمـ ـنـ ـية خطـ ـيرة، على رأسها ارتبـ ـاطه المباشر بأجهزة الاستـ ـخبـ ـارات التركية واستخـ ـبارات هيـ ـئة تحـ ـرير الشام، فضلاً عن افتقاره للشفافية والحوكمة.
أذونات واسعة ومخاطر أمنية
ومن أولى الملاحظات المثيرة للجدل، أنّ التطبيق يطلب من المستخدمين أذونات واسعة وغير مبررة، مثل الوصول إلى الكاميرا ومنع إقفال الهاتف، ما يتيح إمكانية مراقبة المستخدمين أو حتى اختراق هواتفهم.
خبراء الأمن الرقمي حذّروا من أن هذه الصلاحيات قد تُستغل لجمع بيانات حساسة أو للتجسس على نشاطات الموظفين، وهو ما يعزز المخاوف من استخدام التطبيق كأداة رقابية أكثر منه كخدمة مالية.
إشراف استخباراتي وغموض الجهة المطورة
يتضح من تتبع مسار التطبيق أنه يعمل تحت إشراف مزدوج من الاستخبارات التركية واستخبارات هيئة تحرير الشام. هذه الحقيقة تعني أن بيانات المستخدمين ومعاملاتهم المالية تقع بشكل مباشر تحت سلطة أجهزة أمنية غير خاضعة لأي مساءلة أو معايير قانونية شفافة.
الأمر لا يتوقف هنا؛ فالجهة المطوِّرة للتطبيق مجهولة الهوية، وهو ما يفتح الباب أمام الإفلات من أي محاسبة قانونية أو تقنية في حال تعرض المستخدمين لعمليات اختراق أو سرقة مالية.
غياب الموثوقية والتدقيق التقني
أحد أبرز المؤشرات على ضعف مصداقية “شام كاش” هو أنه غير متوفر على متاجر التطبيقات الرسمية مثل “غوغل بلاي” و”آب ستور”. وبدلاً من ذلك، يتم تحميله عبر رابط مباشر من موقع إلكتروني يثير بدوره تحذيرات أمنية، كما أظهر متصفح “فايرفوكس” الذي نبه المستخدمين إلى احتمالية تعرض الموقع لهجمات إلكترونية وسرقة البيانات الحساسة.
هذا الغياب عن المتاجر العالمية يعكس عدم إخضاع التطبيق لأي مراجعات مستقلة أو اختبارات أمان معتمدة، مما يجعله أقرب إلى “منصة مظللة” منه إلى خدمة مالية موثوقة.
فرض إلزامي وانعدام الخصوصية
لا يقف الأمر عند مخاطر الأمان الرقمي فقط، بل إن الحكومة المؤقتة جعلت استخدام “شام كاش” إجبارياً على موظفي القطاع العام، ما حرم هؤلاء من حرية الاختيار بين وسائل متعددة لصرف رواتبهم.
الأخطر أن التطبيق لا يتضمن سياسة خصوصية واضحة تحدد كيفية جمع البيانات الشخصية والمالية أو طرق تخزينها أو الجهات التي تُشارك معها، وهو ما يفتح المجال أمام استغلالها لأغراض سياسية أو أمنية.
أبعاد اقتصادية واحتكارية
اقتصادياً، يخدم التطبيق مصالح شبكات مالية ضيقة، حيث تقتصر عمليات السحب النقدي على شركتي تحويل أموال هما “الهرم” و”الفؤاد”، وهما شركتان ترتبطان تاريخياً بمراكز نفوذ مالي مرتبطة بالسلطة. وتشير التقديرات إلى أن هذه الشبكات تجني ملايين الدولارات سنوياً من العمولات، في وقت تُحرم فيه البنوك الرسمية من الدور الطبيعي في إدارة عمليات الصرف.
هذا الاحتكار المالي يفاقم هشاشة الاقتصاد السوري، ويضعف الثقة في النظام المصرفي النظامي، فضلاً عن أنه يعيد إنتاج ممارسات غير شفافة تزيد من تفاقم الأزمة.
مخاطر مستقبلية على الحوكمة المالية
في ظل غياب إطار قانوني ناظم لأمن البيانات وحوكمة التطبيق، يخشى مراقبون أن يتحول “شام كاش” إلى أداة للتحكم السياسي في تدفق الأموال، بحيث يُستخدم لمراقبة المواطنين أو معاقبتهم مالياً تبعاً لمواقفهم.
وبدل أن يكون خطوة نحو الشمول المالي، فإن فرضه قسراً وبغياب الشفافية قد يرسخ نموذجاً من الحوكمة الرقمية المشوّهة، التي تستغل التكنولوجيا لتعزيز السيطرة بدلاً من تمكين المواطنين.
ورغم أن رقمنة الرواتب تبدو خطوة طبيعية في عالم اليوم، إلا أن سياق إطلاق “شام كاش” في سوريا، بغياب الشفافية والرقابة القانونية، وبإشراف استخباراتي مباشر، يحوله من أداة تسهيلية إلى مصدر خطر جدي على الأمن الرقمي والاقتصادي والاجتماعي.
إن الإصرار على فرض التطبيق إلزامياً، دون بدائل موثوقة أو مراجعة مستقلة، يهدد بجعل رواتب الموظفين ومعلوماتهم الشخصية سلاحاً جديداً في يد السلطات الأمنية، بدل أن تكون التكنولوجيا وسيلة لتحسين حياتهم اليومية.