سوريا

شاهد ولا تحترق بنار الغلاء.. الأسواق تتحوّل إلى مناطق “فُرجة سينمائية مأساوية”

كان من المتوقّع أن تؤدي تداعيات الحرب في سورية وخاصة بعد الدمار الذي طال المصانع ومؤسسات الإنتاج والمزارع ومغادرة المزارعين أراضيهم تحت ضغط الفصائل المسلّحة من ناحية وممارسات الحكومة السورية “المسؤول الأول عن ما آلت إليه الأوضاع في سورية” من ناحية أخرى، أن تقع سورية في براثن أزمات متتالية وفي مقدمتها الأزمة الغذائية والارتفاع الجنوني للأسعار، وهو الوضع الذي يهدّد ملايين السوريين بمجاعة حقيقية في ظلّ البطالة المنتشرة وحالات التشرّد وفقدان مصادر الرزق.
ويشهد الاقتصاد السوري تراجعاً قياسياً نتيجة تواصل الصراع وتسخير الحكومة كل مواردها في خدمة آلة الحرب المجنونة، ما دفع إلى توقف عجلة الإنتاج التي زادتها أزمة الجفاف التي ضربت المنطقة، وأثّرت على كل المستويات، في حين بات راتب الموظف السوري لا يتجاوز العشرين دولاراً، راتب لا يتماشى والمعدّل الدولي لضمان حاجيات حياة أغلب الفئات الشعبية.
طوابير يومية طويلة ترهق المواطن للحصول على القليل المتوفر من المواد الضرورية نتيجة تدمير المصانع والزراعة ووطأة العقوبات الغربية على التجارة السورية.
ويواجه السوريون في مختلف مناطق السيطرة أو خارجها أزمة غذاء حقيقية بعد تضاعف أسعار المواد الأساسية كالحليب الذي بات نادراً في المنازل والخبز الذي يُباع بعدد محّدد والأرز والسكّر فضلاً عن فقدان الأدوية في وقت يخيم فيه شبح الجوع على السوريين صغاراً وكباراً وسط صمت دولي وتكاسل عن فرض الحلّ السياسي السلمي لإنهاء المأساة.
نقصان في الحليب والمواد الأساسية
شهدت مختلف المناطق سواء تلك التي تسيطر عليها الحكومة أو المعارضة على حدّ سواء أزمة في توفر حليب الأطفال بعد الارتفاع المفاجئ الذي طرأ على سعره الذي بلغ 22 ألف ليرة أي ما يعادل 6 دولارات، إضافة إلى فقدانه في العديد من الصيدليات ما دفع بعض الأهالي لخلط حليب الأبقار غير المراقب بالماء لتقديمه للرضّع في خطوة مأساوية تنذر بكارثة صحيّة، خاصة مع صعوبة وصول المساعدات الإنسانية إلى هذه الفئة الهشّة التي تضرّرت من واقع الصراع .
يموت الكثير من الأطفال نتيجة الأمراض المعدية وأمراض نقص المناعة بسبب الجوع، إضافة إلى أنّ الحصول على الرّعاية الصّحّيّة والإمدادات المنقذة للحياة والخدمات الأساسيّة بات في غاية الصّعوبة.
ليس الحليب فقط من المواد التي تشهد نقصا حاداً، بل أصبح هناك شح كبير في مادتي الأرز والخبز، حيث بات الخبز يوزع بعدد محدود يمنع تجاوزه.
ويشكو السوريون في كل المناطق من ارتفاع جنوني في أسعار المواد، مايعتبره السوريون حافة إفلاس حقيقي لدولة الحرب المقسّمة التي تعيش التشتّت والدمار والخراب والجوع.
وما زاد الطين بلّة، التباطؤ في تزويد بعض المناطق ببعض المواد كأداة ضغط للرضوخ لهذا الطرف أو ذاك، علاوة على المتاجرة بأوجاع الناس وجوعهم حيث تتفنّن أطراف الصراع في تهريب المساعدات الإنسانية وبيعها بالسوق السوداء بأسعار مضاعفة، وهي تصرفات طالما حذّر المرصد السوري لحقوق الإنسان منها مراراً، كما نبه إلى معاناة السوريين في المساكن المتهرئة وفي المخيمات حيث يصارعون يومياً من أجل البقاء.
لم تُخلّف الحرب مجاعة وسوء تغذية نتجت عنها أمراض خطيرة فحسب، بل خلّفت أيضاً ندوباً نفسية من الصعب مداواتها وتجاوزها خاصة لجيل من الأطفال ولدوا وعاشوا أوّل خطوات العمر بنقصان وحرمان ومذلّة وفقر مدقع حسب تقارير وإحصائيات الأمم المتحدة.
ولطالما ناشد المرصد السوري كمنظمة حقوقية الوصول إلى حل سياسي فوري ينهي النزاع لوضع حدّ للانتهاكات الجسيمة ضد الأطفال ومختلف الفئات بما في ذلك القتل والتشويه والتأثيرات النفسية. وكم يحزّ في النفس أن ترى عائلة غير قادرة على توفير حليب لطفلها الرضيع أو عائلة تخلط الحليب بالماء من أجل أن يعيش طفلها.. إنّها لمأساة نناشد أصحاب الضمائر الحية في العالم التدخّل لتوفير المساعدات الإنسانية تزامناً مع بذل جهود فعلية للتوصّل إلى الحل السياسي، لأن المساعدات ليست سوى حل مؤقت لا ينهي المأساة.
سورية تتأثر بأزمة أوكرانيا
تلقي الحرب في أوكرانيا بتداعياتها الثقيلة على الأوضاع المتأزمة أصلاً في سورية.. وزير الاقتصاد محمد سامر الخليل، علّق على الأزمة الأوكرانية، قائلاً إن الاقتصاد السوري ليس بمنأى عنها، مشيراً إلى أنه لا توجد أيّة نية لرفع أسعار المواد المدعومة حالياً، ما يتنافى مع ما تعيشه السوق السورية اليوم من غلاء فاحش وفقدان للمواد الضرورية.
بدورها تعاني أسواق الملابس في مناطق السيطرة أو خارجها ركوداً بسبب انهيار المقدرة الشرائية في ظل ارتفاع نسب البطالة وضعف الأجور التي لم تعد كافية للمأكل والمسكن في أخطر الأزمات الاقتصادية التي يعيشها الاقتصاد السوري خاصة مع فقدان الليرة السورية قيمتها أمام الدولار.
وفي واقع الحرب تحوّلت أسواق الخضروات والغلال والملابس إلى مناطق “فرجة سينمائية” مأساوية تحاكي واقع الخصاصة والحرمان والفقر المدقع.
ثورة جياع مقبلة
ويرى عبد الله محمد، الأمين العام لحزب اليسار، في حديث مع المرصد السوري، أنّ لهيب غلاء المواد الغذائية وفقدانها في السوق السورية قد يؤدي إلى ثورة جياع حقيقية، سيما بعد التقارير التي تؤكد أنّ مخزون الحبوب في سورية لا يكفي أكثر من شهرين لاعتماد الحكومة على القمح الروسي والأوكراني، لافتاً إلى أن الحكومة السورية قد استنجدت بسلطنة عمان لإرسال سبع قاطرات لا تكفي مدّة أسبوع واحد، مذكّراً بفقدان الحليب وزيت الذرة وبالارتفاع الجنوني لسعر الأرز والبطاطا بعد انخفاض قيمة الليرة السورية التي تساوي أكثر من أربع آلاف مقابل الدولار، بالإضافة إلى أزمة الكهرباء وارتفاع أسعار الغاز والمحروقات ما يضع الحكومة في موقف صعب أمام تساؤلات عامة الناس والطفل الجائع والمريض.
وختم بالقول: ”علينا أن نتخلص من هذا الوضع الذي وصل إليه شعبنا من فقر وقتل وتهجير وما لحق بشبابنا من ضياع حيث يتم الزج بهم كمرتزقة للقتال والموت في ليبيا وأذربيجان والآن في روسيا وأوكرانيا إذ أن معظم الشبيحة لدى النظام أصبحوا عالة عليه لا يستطيع تقديم الرواتب لهم، وقد سهّل النظام عملية الالتحاق بصفوف الجيش الروسي، وبالمقلب الثاني في صفوف الجيش الأوكراني”.
الحلّ السياسي أساس تجاوز المأساة
ويرى محللون اقتصاديون أن الخروج من عنق الزجاجة وتعديل بوصلة الاقتصاد المنهار يتطلّب مواقف جريئة لاحتواء المأساة عبر فرض الحلّ على كل الجهات المتحاربة، للانطلاق في مشروع إعادة الإعمار فضلاً عن التسريع بإلغاء المرسوم التشريعي رقم 3 الذي صدر السنة الماضية وقيّد التعامل بالدولار الأمريكي، إلى جانب لجم ممارسات المحتكرين والمتاجرين بقوت الشعب سواء من قبل الحكومة أو المعارضة المسلحة على حدّ سواء.
ويحذّر الخبراء من إعادة تشكيل الاقتصاد الجديد بما يحقق مزيداً من الثراء الفاحش للطبقة الحليفة للحكومة والشبيحة على حساب قوت السوريين المكلومين بنار حرب فرّقتهم وهجّرتهم ودمّرتهم وجوّعتهم.. فأن تخلط حليباً بماء حتى تعيش مأساة كبرى، ولعنة يسجلها التاريخ ضد من تسبب فيها وسَطا على مقدرات شعب بكامله.

مشاركة المقال عبر