ما هي أسباب انسـ ـحاب سلـ ـطة دمشق من اجتماعات باريس وتداعياتها على السلـ ـطة نفسها؟
سلطة فاقدة للإرادة وأداة طيّعة بيد أنقرة

أقيم يوم 8 آب الجاري كونفرانس وحدة الموقف لمكونات شمال شورق سوريا، والذي عُقد تحت شعار “معاً من أجل تنوع يعزز وحدتنا، وشراكة تبني مستقبلنا”، وذلك في المركز الثقافي بمدينة الحسكة ، بمشاركة أكثر من 400 شخصية يمثلون الإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال وشرق سوريا والمؤسسات السياسية والعسكرية والأمنية وممثلي مكونات شمال وشرق سوريا.
حيث أكد الكونفرانس الالتزام بمسار وطني ديمقراطي جامع قائم على التنوع، الشراكة، والمواطنة المتساوية، مشيراً إلى عقود من التهميش والإقصاء وسياسات قمع الهويات وفرض التغيير الديمغرافي، مع المطالبة بتحقيق شفاف في الانتهاكات التي ترقى لجرائم ضد الإنسانية.
واعتبر الكونفرانس التعدد القومي والديني والثقافي مصدر قوة، ودعا لترسيخه في البنى السياسية والإدارية، مع تطوير نموذج الإدارة الذاتية.
وأشاد المجتمعون بتضحيات قوات سوريا الديمقراطية واعتبارها نواة لبناء جيش وطني مهني يحمي وحدة البلاد، مطالبين بدستور ديمقراطي لدولة لا مركزية تضمن المشاركة العادلة لجميع المكونات، وإعادة النظر في الإعلان الدستوري الحالي الذي أقرته سلطة دمشق.
كما دعا المجتمعون إلى إطلاق مسار عدالة انتقالية شامل يحقق المصالحة الوطنية، ويضمن عودة آمنة وكريمة للمهجّرين، ورفض التغيير الديمغرافي. وشددوا على دور المرأة والشباب والمجتمع المدني في إعادة البناء وترسيخ السلم الأهلي والحوار.
كما طالبوا بإعادة النظر في التقسيمات الإدارية بما يتناسب مع الواقع الديمغرافي والتنموي. والتأكيد على الالتزام باتفاقية (عبدي–الشرع) ونتائج كونفرانس (وحدة الموقف الكردي) كخطوات نحو توافق وطني شامل. داعين لعقد مؤتمر وطني سوري جامع لرسم هوية وطنية جامعة. كما أكدوا التمسك ببناء سوريا حرة، موحدة، ديمقراطية، تعددية، لا مركزية، يسودها القانون وتُصان فيها الكرامة الإنسانية.
ولكن هذا لم يعجب سلطات دمشق، حيث تحدث مصدر من وزارة الخارجية لدى هذه السلطة المؤقتة عن إلغاء مشاركة السلطة في اجتماع باريس المرتقب بين قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية من جهة والحكومة المؤقتة في دمشق من جهة أخرى.
ولهذا الانسحاب تداعيته وأثاره يمكن تلخيصها بالنقاط التالية:
*تجنّب الحوار تحت الضغط التركي
قرار سلطة دمشق بعدم المشاركة في اجتماع باريس بين ممثلي الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية من جهة، والحكومة السورية المؤقتة من جهة أخرى، لم يكن قراراً معزولاً، بل جاء في ظل ضغوط تركية متزايدة، خصوصاً أن القرار جاء بعد زيارة وزير الخارجية التركية هاكان فيدان إلى دمشق ولقاءه المسؤولين في الحكومة المؤقتة.
تركيا تعتبر أي تقارب رسمي بين دمشق والإدارة الذاتية تهديداً لمصالحها الأمنية، خاصة في مناطق شمال وشرق سوريا حيث يشكل الوجود المنظم سياسياً وعسكرياً في شمال وشرق سوريا نقطة حساسة لأنقرة. انسحاب دمشق من الاجتماع يمكن قراءته كاستجابة لهذه الضغوط، مما يعكس محدودية قدرة السلطة على اتخاذ قرارات مستقلة في ملفات ترتبط بمصالح دول الجوار، وتحديداً تركيا.
هذا الموقف يضع دمشق في موقع الطرف الذي يُدار قراره السياسي وفق حسابات خارجية، وهو ما يضعف موقعها التفاوضي داخلياً وخارجياً.
*تراجع الشرعية
عزوف دمشق عن المشاركة في الحوارات المرتبطة بالحل في سوريا، خاصة تلك التي تجمع مختلف المكونات السورية، يفاقم من تآكل شرعيتها أمام المجتمع الدولي.
الشرعية السياسية لا تُقاس فقط بالسيطرة على الأرض، بل أيضاً بالقدرة على الانخراط في مفاوضات وحوارات شاملة مع السوريين وضمان تمثيل جميع السوريين. وعندما يتكرر الغياب أو الانسحاب من مثل هذه اللقاءات، يترسخ الانطباع بأن دمشق غير راغبة أو غير قادرة على الدخول في مسار تسوية حقيقي.
وهذا بالمقابل يفتح المجال أمام الإدارة الذاتية، للحصول على اعتراف سياسي أكبر على حساب المركز، خاصة أنها نجحت في بناء مؤسسات تمثيلية متماسكة وشفافة في شمال وشرق سوريا ممثلة لجميع مكوناتها.
*مؤتمر جامع ومبشر بالتغيير
انعقاد كونفرانس مكونات شمال وشرق سوريا بمشاركة أكثر من 400 شخصية من مختلف القوميات والأديان والمكونات، كان خطوة نوعية في إظهار وحدة الرؤية بين هذه المجموعات.
البيان الختامي شدد على التنوع كمصدر قوة، وعلى اللامركزية كخيار سياسي، وعلى العدالة الانتقالية كضرورة لتحقيق مصالحة وطنية. هذا يعكس وجود مشروع سياسي بديل متماسك، قادر على طرح تصور واضح لمستقبل سوريا.
المؤتمر أرسل رسالة أمل، مفادها أن هناك إمكانية لبناء نموذج ديمقراطي تشاركي من الداخل، بعيداً عن منطق الإقصاء والهيمنة المركزية الذي ساد لعقود.
في المقابل فأن مؤتمر الحوار الوطني الذي عقدته سلطة دمشق تم فيه إقصاء مكونات الشعب السوري وجرى دعوة الموالين للسلطة فقط، ما جعله مؤتمراً ناقصاً وكشف تفرد الحكومة المؤقتة بالسلطة وإقصاء السوريين.
*دعم دولي واضح للمؤتمر
ولا يمكن تجاهل أن انعقاد الكونفرانس جاء في ظل دعم سياسي غربي واضح، عبر القنوات الدبلوماسية التي رحبت بمخرجاته.
هذا الدعم يعكس إدراكاً دولياً متزايداً لأهمية إدماج هذه المكونات في أي عملية سياسية سورية شاملة، ويؤشر إلى أن القوى الدولية ترى في هذه التجمعات شريكاً يمكن الاعتماد عليه مستقبلاً.
كما أن هذا الدعم يمنح المؤتمر وزناً إضافياً في مواجهة محاولات التشكيك بشرعيته أو التقليل من أهمية مخرجاته، خصوصاً من قبل السلطة المركزية في دمشق.
*عواقب التغيب عن باريس
امتناع سلطة دمشق عن المشاركة في اجتماع باريس ليست له فقط دلالات سياسية آنية، بل له آثار استراتيجية طويلة المدى على موقع دمشق في أي تسوية مستقبلية.
الغياب يسرع من فقدان السلطة لدورها في صياغة الحلول، ويكشف مساعيها للاستئثار بالسلطة وإقصاء مكونات الشعب السوري وهو ما يتعارض مع الشروط الغربية التي تدعو السلطة علناً لتمثيل جميع المكونات السورية.
كما أن الانسحاب يضعف أي اتفاقيات سابقة (مثل اتفاقية عبدي–الشرع) كانت تهدف إلى دمج المؤسسات أو توحيد المواقف، ويعطي إشارة سلبية للشركاء المحليين والدوليين حول مدى التزام دمشق بأي تفاهمات مستقبلية.
*استمرار سياسات النظام القديم
قرار الانسحاب من المفاوضات ينسجم تماماً مع نهج قديم مارسه النظام السوري السابق، وهو تجنب أي حوار يمكن أن ينتج تغييرات حقيقية في بنية السلطة.
هذا النمط، الذي كان واضحاً في مرحلة حكم بشار الأسد، يقوم على المماطلة أو الانسحاب من المسارات التفاوضية متى ما شعر النظام بأن مخرجاتها قد تحد من سلطته المركزية.
استمرار هذا السلوك في المرحلة الحالية يرسل رسالة واضحة: السلطة الجديدة تتمسك بأسلوب إدارة الأزمات عبر الإقصاء، وليس عبر الشراكة، وهو ما يعزز الانقسام الداخلي ويزيد من صعوبة الوصول إلى حل سياسي شامل.
كونفرانس الحسكة أعطى دفعة سياسية محلية مهمة لصيغة حكم تشاركي وللمطالبة بدستور لامركزي وعدالة انتقالية. انسحاب دمشق من اجتماعات باريس يمثل اختباراً لقدرتها على الحفاظ على شرعية وطنية جامعة.