ثقافة وفن سوريا

في الذكرى الثامنة لرحيله: أناشيد الشاعر السوري سليمان العيسى ما تزال تؤنس الأطفال

قليلون هم الشعراء الذين كرسوا تجاربهم للكتابة للأطفال، على غرار الشاعر السوري الراحل سليمان العيسى الذي آمن بالمستقبل وبأهمية الكتابة للأجيال الناشئة التي اعتبرها مهمة محورية لأدبه، وألف عدة أناشيد حاول من خلالها المساهمة في خلق جيل قادر على التغيير إلى الأفضل.

ومن بين العشرات من الشعراء الذين كتبوا للصغار وملأت قصائدهم صفحات كتبهم المدرسية رسخت في ذاكرتهم نصوص الشاعر السوري الراحل سليمان العيسى التي تناقلتها الأجيال.

ويصادف اليوم الذكرى الثامنة لرحيل الشاعر السوري سليمان العيسى الذي أبصر النور في لواء إسكندرون، في قرية النعيرية بحارة اسمها بساتين العاصي سنة 1921، والتي يصفها العيسى لاحقاً وهو على مشارف التسعين عاماً يودع الدنيا في كتابه الأخير “النعيرية قريتي” بحواكيرها وعصافيرها وزقزقتها وبيوتها القرميدية وأشجار التين والتوت التي كتب تحت ظلها قصائده الأولى.

كان والد الشاعر شيخاً ورجل دين اسمه أحمد العيسى تلقى على يديه مبادئ القراءة والكتابة في كتّاب القرية، فحصل على تكوين تعليمي متميز وفق الثقافة التقليدية السائدة، فحفظ القرآن الكريم وديوان المتنبي والعشرات من عيون الشعر العربي ثم أشركه معه في التعليم بالكتّاب، وبسبب هذه الرعاية التي رفدت نبوغ الفتى نظم الشعر وهو في العاشرة.

وكانت أسرة العيسى تعيش في حال أقرب إلى الفقر، إذ ليس لها من الموارد إلا ما يناله الأب من راتب تدريس الصغار في الكتّاب وبعض ما تدره عليهم قطعة أرض صغيرة، لكنها خلقت في نفس الطفل تجذراً بالأرض وبالكادحين كما سيكتب ذلك لاحقاً في نشيد “يا شباب العرب هيا”.

وعندما قرر العيسى الأب إرسال ابنه ليتعلم في المدرسة الابتدائية بمدينة أنطاكيا اختبره مدير المدرسة ثم وضعه في الصف الرابع مباشرة.

وشاءت الأقدار أن يصدم العيسى بما يواجه الأمة من مؤامرات ومخاطر عندما سعى الانتداب الفرنسي لأن يسلخ لواء إسكندرون عن جسم الوطن الأم ويعطيه للأتراك، فانخرط في مظاهرات رافضة وألقى قصائد فيها لفتت إليه الانتباه، وحين احتل الجيش التركي المنطقة لم يجد بدا من النزوح تاركاً مدارج طفولته بعين دامعة.

وتابع العيسى دراسته الثانوية بين حماة واللاذقية ودمشق وشارك في النضال الوطني ضد الاحتلال وسجن إثرها أكثر من مرة، حيث عبر عن غضبه من المحتل وعن تطلعه للاستقلال في قصائد عديدة كتبها حينها.

ناهض الشاعر الاستعمار ووقف مع الكادحين داعيا إلى وحدة العرب ليبقى حاملا لهذه الأفكار طيلة حياته، بل إنه ساهم بنشرها عبر قصائده إبان دراسته في دار المعلمين العليا ببغداد والتي تعرف فيها على طلاب سيصبحون لاحقا أدباء كبارا مثل عبدالوهاب البياتي وبدر شاكر السياب ولميعة عباس.

ولدى عودته من العراق عام 1947 استقر العيسى في مدينة حلب ليعمل في سلك التدريس وليخوض تجربة صحافية فريدة مع صديقه الأديب الراحل صدقي إسماعيل عندما أسسا جريدة فكاهية ناقدة حملت عنوان “الكلب” بمشاركة مجموعة من الكتاب المبدعين من نجاة قصاب حسن وعبدالسلام العجيلي ومنصور الرحباني، بحسب تقرير لصحيفة العرب.

وفي عام 1952 أصدر العيسى ديوانه الأول “الفجر” وبث من خلاله لواعج ذاتية وغزلية وحضوراً أقل للقضايا القومية اشتكى خلالها من تواطؤ أنظمة عربية في ضياع فلسطين سنة 1948.

ولكن الهم القومي مع الإبداعي سيتماهى أكثر عند العيسى وصار أكثر انخراطاً في قضايا الأمة ما جعل الأديب والدبلوماسي الجزائري عثمان سعدي في كتابه “الثورة الجزائرية في الشعر السوري” يرى أن العيسى لعب دوراً بالغ الأثر في حشد الدعم والتأييد لثورة الجزائريين ضد الاحتلال الفرنسي.

وما بين عامي 1952 و1960 أصدر العيسى ستة دواوين شعرية نذكر منها “قصائد عربية” و”صلاة لأرض الثورة” الذي خص به الثورة الجزائرية و”ثائر من غفار”، فغدا الشعر عنده رسالة قومية موجهة إلى الجماهير صاحبة المصلحة في التغيير، وكان شعره النضالي شاملاً لهموم الأمة العربية من المحيط إلى الخليج، ولأجل ذلك جاءت قصائده تلهب النفوس وتأثّر بها جيل كامل من الشباب العربي على امتداد الأقطار.

غير أن حادثة الانفصال التي اعترت دولة الوحدة بين سوريا ومصر ثم نكسة يونيو سنة 1967 أخذت تجربة العيسى الشعرية إلى أمداء أخرى مختلفة، فظهر له ديوانان هما “أمواج بلا شاطئ” و”أزهار للضياع”، كانت قصائدهما بمثابة ردة فعل نفسية مسحت شعره في تلك المرحلة بالمرارة والحزن الهادئ وأخمدت ثورة اندفاعه فكانت أشبه بمراجعة للماضي ووقفة على أسباب النكسات.

العيسى الذي تقاعد من عمله كموجّه للغة العربية في وزارة التربية عام 1967 وأسهم بتأسيس اتحاد الكتاب العرب في سوريا عام 1969، انتقل للعيش في اليمن سنة 1980 بحكم عمل زوجته الأديبة الراحلة ملكة أبيض كأستاذة في جامعة صنعاء وهناك ألف سبعة دواوين شعرية خلال 15 عاماً وربطته علاقات قوية مع الوسط الثقافي اليمني ولمس احتفاء أدبياً وشعبياً به.

ومع نضوج تجربته وجد الشاعر أن مواجهة الأمة للتحديات لا تكون بالمباشرة والخطابية بل ببناء الإنسان من داخله وتربية الأجيال الجديدة على الشيم الأصيلة وإشراكهم في التفكير والتدبير لصنع أمنياتهم، فأخذ نتاجه الشعري للكبار يقل ويستعيض عنه بكتابة أناشيد ومسرحيات شعرية للصغار الذين صار يبحث عن غده في عيونهم.

ولم تكن كتابة العيسى عن الأطفال اعتباطاً بل وفق نظرية وضعها هو خلاصتها أن شاعر الأطفال يجب أن يقدم لهم قصيدة تحافظ على مستواها الفني وتخدم أغراض التربية الهادفة والسليمة، وحرص أن تتوافر في شعره الصورة الشعرية الجميلة واللفظة الرشيقة الموحية الخفيفة والفكرة النبيلة الخيرة والوزن الموسيقي الخفيف والرشيق والمزج بين عالمين هما الواقع الحسي والحلم والخيال، محاولا تبسيط المفاهيم وتقريبها بالصور الحسية.

وقد وجد الشاعر والناقد الإماراتي سيف محمد المري أن ما قدمه العيسى في مجال الكتابة للطفل هو أجمل تراث يقدمه لبناء الأمة العربية ويثري مكتبتها بباب هي أحوج ما تكون إليه.

وبعد أن عاد العيسى إلى دمشق وهو في نهاية السبعينات من العمر أخذ يقضي وقته بين المنزل وعند بعض الأصدقاء وفي اجتماعات مجمع اللغة العربية الذي أصبح عضوا فيه، وظل رغم كل شيء يتمسك بالأمل رغم حال الأمة الصعب الذي كان يصفه بالطارئ، فقال في آخر حديث صحافي أجري معه “لا تيأسوا أبداً، حاولوا أن تنهضوا بعد كل عثرة وأن تفتحوا نافذة حين يغلق أمامكم باب”.

وفي التاسع من أغسطس سنة 2013 توقفت حروف العيسى للمرة الأخيرة وصارت قصائده بحكم التاريخ، ولكنه حي وباق على ألسنة الأطفال.

للعيسى أكثر من سبعين كتابا تأليفا وتعريبا ما بين الشعر والقصة والمسرح والدراسة للكبار والصغار، وحاز العديد من الجوائز أهمها وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة وجائزة لوتس للشعر من اتحاد كتاب آسيا وأفريقيا وجائزة المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة (ألكسو) لأدب الأطفال وجائزة الإبداع الشعري لمؤسسة البابطين.

مشاركة المقال عبر