آراء وتحليلات

عندما يعيد أردوغان النظر في طموحاته

أردوغان يقلقه احتمال تحقيق إيران مكاسب بفضل إدارة جو بايدن. يقلقه أيضا دور روسي مرشّح لأن يكون أكثر نشاطا وهجومية في المنطقة. مثل هذا الدور يخيف تركيا التي هي على تماس مع الوجود الروسي في دول عدّة من بينها سوريا.
لم تمرّ مرحلة في هذا التعقيد والخطورة على المنطقة كلّها وذلك منذ إعادة تركيبها نتيجة الحرب العالميّة الأولى وانهيار الإمبراطوريّة العثمانيّة في عشرينات القرن الماضي. ليس سعي تركيا، من خلال رئيسها رجب طيّب أردوغان، لإعادة حساباتها ومراجعة سياساتها في العمق، سوى دليل على مدى الارتباك الذي يشعر به رجل اعتقد أنّ في استطاعته إعادة الحياة إلى الدولة العثمانيّة وأمجادها.
ما حصل عمليا أنّ أردوغان الذي عجز في مرحلة معيّنة عن استيعاب الحجم الحقيقي لتركيا ولقدراتها الاقتصاديّة، فضلا عن خطورة لعب دور رأس الحربة للمشروع الإخواني (نسبة إلى الإخوان المسلمين) بدأ يعيد النظر في طموحاته. يفعل ذلك في ضوء الحاجة إلى تموضع جديد لتركيا، خصوصا في حال توصلت الإدارة الأميركيّة إلى صفقة مع “الجمهوريّة الإسلاميّة” الإيرانية في شأن الملف النووي.
مثل هذه الصفقة، بغض النظر عن طبيعتها ومحاولات تغطية مضمونها بكلام أميركي عام، ستعني إطلاق يد إيران في متابعة مشروعها التوسّعي. ما يهمّ في أيّ صفقة تعقد بين إدارة جو بايدن و”الجمهوريّة الإسلاميّة” نقاط عدّة تدفع كلّ دولة من دول المنطقة إلى اعتماد الحذر الشديد.
في مقدّم هذه النقاط متابعة إيران تمويل ميليشياتها المذهبيّة في المنطقة. هذه الميليشيات منتشرة في العراق وسوريا ولبنان واليمن. إضافة إلى ذلك، لديها نواة لميليشيا في البحرين. يكفي ما فعلته هذه الميليشيات في أماكن وجودها كي يلجأ أردوغان إلى إعادة نظر شاملة في نهجه السياسي والأيديولوجي. يمكن أن يذهب إلى أبعد من ذلك في حال اكتشف عمق العلاقة بين كلّ ما له علاقة بالإخوان المسلمين وما تفرّع عن هذا التنظيم وولد من رحمه من جهة والميليشيات الإيرانيّة المرتبطة بـ”الحرس الثوري” الإيراني من جهة أخرى.
ثمّة نقطة أخرى، لا يمكن تجاهلها، في سياق المخاوف من صفقة أميركيّة – إيرانيّة. تتمثل هذه النقطة في نجاح “الجمهوريّة الإسلاميّة”، أقلّه إلى الآن، في فصل الملفّ النووي الإيراني عن الصواريخ والطائرات المسيّرة التي لدى “الحرس الثوري” والتي يستخدمها من خلال ميليشيات تابعة له في الاعتداء على دول عربيّة، مثل المملكة العربيّة السعوديّة ودولة الامارات العربيّة المتّحدة، انطلاقا من الأراضي اليمنية التي يسيطر الحوثيون (جماعة أنصارالله) على قسم لا بأس به منها.
يقلق تركيا وأردوغان احتمال تحقيق إيران مكاسب، بفضل إدارة جو بايدن. يقلقها أيضا دور روسي مرشّح لأن يكون أكثر نشاطا وهجومية في المنطقة. مثل هذا الدور يخيف تركيا التي هي على تماس مع الوجود الروسي في دول عدّة من بينها سوريا. مثل هذا الاحتمال بات واردا، بغض النظر عن ضعف الاقتصاد الروسي وحجمه المتواضع. في النهاية إن حجم الاقتصاد الروسي أقلّ من حجم الاقتصاد الإيطالي حسب الإحصاءات المعترف بها دوليا، وذلك على الرغم من استفادة روسيا في العام 2021 من ارتفاع أسعار النفط والغاز.
لا شكّ أنّ عوامل أخرى تفرض على أردوغان مراجعة سياساته. في مقدّم هذه العوامل الوضع الداخلي لتركيا التي بدأ رئيسها يكتشف أخيرا أنّ العنتريات التي مارسها خارج الحدود التركيّة لم تؤدّ إلى النتائج المرجوّة على الصعيد الداخلي. لعلّ هبوط سعر الليرة التركيّة وخسارة حزب العدالة والتنمية انتخابات بلدية إسطنبول قبل نحو سنتين ونصف السنة خير دليل على ذلك.
يمكن التوقّف أيضا عند اللهجة المهادنة التي اعتمدها أردوغان مع اليونان ومصر وسعيه في الوقت ذاته لإعادة مد الجسور مع إسرائيل بعدما حاول طويلا المتاجرة بالقضيّة الفلسطينيّة. ذهب الرئيس التركي بعيدا في ربط بلده بـ”حماس” بصفة كونها جزءا لا يتجزّأ من التنظيم العالمي للإخوان المسلمين. قام أردوغان في أيّار – مايو من العام 2010 بمحاولة لفكّ الحصار عن قطاع غزّة. انتهت المحاولة، عن طريق البحر، بفشل تركي ذريع. كشف هذا الفشل محاولة واضحة من الرئيس التركي للقيام بعمل ذي طابع استعراضي من أجل إظهار نفسه في مظهر المدافع عن الفلسطينيين. في السنة 2022، لم يعد من عائق أمام زيارة يقوم بها الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ إلى أنقرة قريبا…
ليست تركيا سوى نموذج لدولة أخذت علما بأن المنطقة مقبلة على تغييرات كبيرة. اضطر أردوغان في واقع الحال إلى إجراء عمليّة نقد للذات وقام أخيرا بزيارة، يمكن وصفها بالناجحة، إلى دولة الإمارات العربيّة المتحدة حيث التقى الشيخ محمّد بن زايد وليّ عهد أبوظبي كما زار الجناح التركي في معرض “إكسبو 2020” في دبي.
تظلّ هناك عقد كثيرة يحتاج أردوغان إلى التخلّص منها. تأتي بين هذه العقد العقدة الكرديّة. مثل هذه العقدة تمنع تركيا من لعب دور بناء في سوريا وحتّى في العراق. كذلك، تمنع هذه العقدة حزب أردوغان من تطوير علاقته نحو الأفضل مع المكوّن التركي داخل البلد نفسه. مثل هذا التطوير للعلاقات مع الأكراد في تركيا نفسها سهل إلى حدّ ما متى وجدت النيّة لاعتماد مثل هذا التوجّه انطلاقا من تركة الرئيس الراحل تورغوت أوزال الذي حكم بين 1989 وحتى وفاته في العام 1993.
هل ينجح رجب طيب أردوغان في إنقاذ رأسه، سياسيا، أم لا ليست تلك المسألة. تبدو المسألة أبعد من ذلك بكثير نظرا إلى أنها مرتبطة بمجموعة من الأسئلة من نوع هل تستسلم الإدارة الأميركيّة أمام إيران وما الذي سيترتب على مثل هذا الاستسلام على صعيد إعادة تشكيل المنطقة؟ ما لا يمكن تجاهله أن الشرق الأوسط والخليج يعانيان منذ العام 2003 من خلل أساسي أدّى إلى حال من اللاتوازن تسبب بها تسليم إدارة جورج بوش الابن العراق على صحن من فضّة إلى إيران.
لن يكون أيّ اتفاق أميركي – إيراني يتجاهل سلوك “الجمهوريّة الإسلاميّة” في المنطقة ودور ميليشياتها وصواريخها وطائراتها المسيّرة سوى تعميق لحال اللاتوازن. يبدو أن رجب طيّب أردوغان أخذ علما أخيرا بهذه الحال… مثلما أخذ علما بدور مختلف لروسيا في ضوء ما يحصل في أوكرانيا.
خير الله خير الله – صحيفة العرب

مشاركة المقال عبر